عيسى عليه السلام آخر الأنبياء من بني إسرائيل، تمامًا كما أن آخر الأنبياء والرسل من بني الإنسان جميعاً هو محمد ³. ذُكِرَ اسمه في القرآن بلفظ المسيح تارة وبلفظ عيسى ابن مريم تارة أخرى.
كان عمران، أبو مريم، رجلا ً عظيمًا بين علماء بني إسرائيل. نذرت زوجته بعد أن حملت، بأن تجعل ما في بطنها محرَّرًا لخدمة الله سبحانه وتعالى. فلما وضعت كان المولود أنثى فسمتها مريم. وقد تقبلها الله تعالى بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا. ولما توفي عمران كانت ابنته صغيرة فكفلها زوج خالتها زكريا. فلما نشأت وترعرعت على التقوى في بيت زكريا، وبلغت سن الصبا، صارت ملائكة الله تعالى تأتيها وتخبرها باصطفاء الله لها وتطهيرها من الأدناس، وتحثها على الاجتهاد في العبادة والقنوت للهللهلله.
نشأت مريم نشأةً طهر وعفاف مكللة بعناية الله. ولما بلغت مبلغ النساء، نزل عليها الملك جبريل وأعلمها أنه مرسل من عند الله ليبشرها بأن الله سيهب لها غلامًا زكيًّا، وأنه يُسمى المسيح عيسى ابن مريم، وأنه يكون وجيهًا في الدنيا والآخرة، وأنه يكون من المقربين، ويكلم الناس في المهد وكهلاً، وأن الله سيعلمه الكتاب والحكمة والتوراة وينزل عليه الإنجيل، وأنه سيكون آية للناس على قدرة الله تعالى ورحمة منه لعباده، إذ سيكون سبيل خلاصهم بعد أن تجاوز اليهود حدود الله وعاثوا في الأرض فساداً، فيجيء لهدايتهم وردهم عن ضلالهم. والحق أن أمر الحمل جاء عجيباً دالاً على قدرة الله تعالى، ومع ذلك فليس هذا بأعجب من خلق السموات والأرض وما فيهن من العجائب، ولا من خلق آدم من غير أب أو أم. قال تعالى: ﴿إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خَلَقَه من تراب ثم قال له كُن فيكون﴾ آل عمران: 59.
ولد المسيح عليه السلام في بيت لحم على بُعد بضعة كيلو مترات من بيت المقدس، ونشأ نشأة محمودة. وكان غيورًا على الدين منذ صغره حريصًا على تفهّم حكمه وأسراره. كان يُجالس العلماء ويناقشهم، وتمرس في صباه وشبابه في بيئة علم وحكمة ودين. وقد بُعث نبيًّا عندما بلغ ثلاثين عامًا، واختار اثني عشر رجلاً ليكونوا تلاميذه، فتتلمذوا له وتعلموا منه. وكان مجيء المسيح عليه السلام لمهمة سامية، بعد أن حرّف بنو إسرائيل شريعة موسى عليه السلام وجعلوا جل همهم جمع المال. وكان من اليهود طائفة أنكروا القيامة وكذّبوا بالحساب والعقاب، وطائفة أخرى ألهتهم الحياة الدنيا فانغمسوا في ملذاتها.
كما كان من أغراض مجيئه البشارة باقتراب ملكوت السموات، وهي الشريعة الإلهية التي أرسل الله بها النبي الأميّ محمدًا ³ الذي وعد الله بني إسرائيل بقدومه في إنجيل المسيح. لكن الناس على مر الزمان تركوا ذلك الإنجيل، وترتب على ذلك ضياعه، ثم اتباعهم لقصص ألفها تلاميذ المسيح أو تلاميذ تلاميذه لم تسلم من التحريف والتغيير.
كان عيسى عليه السلام يذكر للناس، حينما بدأ بإرشادهم ووعظهم وردهم إلى طاعة الله والإخلاص في عبادته، بأنه مؤيّد من الله بالمعجزات التي لا يقدر عليها غيره. من ذلك أنه يخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله. ومن ذلك أيضًا أنه يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وأنه ينبئهم بما يأكلون ويدّخرون في بيوتهم. وكان يُبين لهم أن هذه الآيات كافية للدلالة على صدقه وحملهم على الإيمان به. كما بيّن لهم أنه مصدِّق للتوراة مؤمن بما فيها وحاثٌّ على اتباعها.
كان عيسى مجتهدًا في رسالته، غير متوان في دعوته رغم أنه كان وحيدًا فريدًا ليست له عصبة أو قبيلة تُؤازره. لكنه لم يحفل بغضب الناس عليه، فقد تكفّل الله بحفظه، وعصمه من الجاحدين برسالته. ولما ضاق اليهود به ذرعاً صوروه لرجال السياسة مثيرًا للفتن متطلعًا للملك. كما ضاق الكهنة بفضحه لريائهم وخبثهم فعقدوا العزم على قتله. فأرسل الوالي جندًا للقبض على المسيح عيسى ابن مريم. وكان عيسى حينذاك قد علم بما يخفي القوم، وعرف أن عيون الكهنة تترصده، وأن رجال السلطان يجدّون في البحث عنه.
وأخيرًا، وجدوه مع مجموعة من تلاميذه. ولما لم يبق إلا القبض عليه، أنقذه الله من أيديهم بأن أخفاه عن أعينهم وألقى شبهه على شخص آخر، فصار شديد الشبه به وحسبوه هو. فأخذوه وصلبوه وقتلوه، ونجَّّّى الله المسيح من شرّهم. وشاع في الناس أن المسيح صلب وقُتل ولكن الله تعالى دحض دعواهم فقال: ﴿وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وماصلبوه ولكن شُبه لهم﴾ النساء: 157.
أما اليهود، فلم يرد عندهم ما يدل على صلب أو قتلِ رجل اسمه المسيح، ولا يوجد في تاريخهم الديني شيء من ذلك مطلقًا. فإذا تكلّم اليهود عن المسيح وقتله فإنما ذلك لأنهم يسمعون ما يقوله النصارى من أن المسيح قتله اليهود.
أما النصارى، فإنهم جعلوا خاتمة أمر المسيح عليه السلام خاتمة شنيعة ومأساة مفجعة. وجعلوا الاعتقاد بحصولها، على الوجه الذي صوروه أصلاً من أصول دينهم ودعامة من دعائم عقيدتهم، لا يُقبل من نصرانيّ إلا الإيمان بها، ولا تنفعه عبادة أو عمل صالح دون الاعتقاد بصلب المسيح.
وقد أشار القرآن الكريم إلى حقيقة أمر عيسى عليه السلام بعد المؤامرة التي دبرت لقتله وصلبه، وبيّن أنه لم يُقتل ولم يُصلب، بل رفعه الله إلى السماء ببدنه وروحه. يدل على ذلك قوله تعالى في فرية اليهود والرد عليها وما دار من اختلاف حول ذلك: ﴿ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينًا¦ بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزًا حكيماً ﴾ النساء: 157، 158.
وبيّن القرآن أن عيسى عليه السلام سينزل في آخر الزمان ويحكم بين الناس بالعدل متبعًا في ذلك شريعة نبينا محمد ³، وقد جاء في الحديث الشريف أن عيسى عليه السلام سيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام، وأنه سيؤمن به أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى جميعًا قبل موته. يقول تعالى: ﴿وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً﴾ النساء: 159. وورد فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ³ أنه قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطاً وإمامًا عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ) رواه مسلم والبخاري.